كفرشيما: كيف سقطت الجوهرة الخضراء من قلب الاقتصاد إلى هامش التلوّث

يستعرض هذا المقال رحلة كفرشيما من بلدة خضراء نابضة بالحياة الاقتصادية والزراعية إلى منطقة تعاني من التلوث والتهميش وسوء التخطيط. يسلّط الضوء على كيف أدّت السياسات الخاطئة، وغياب الرؤية التنموية، والتوسع العمراني العشوائي إلى خسارة البلدة لهويتها الطبيعية وحضورها التجاري في بيروت. المقال ليس رثاءً للماضي فقط، بل محاولة لفهم جذور الانهيار وفتح باب التفكير في إمكانية استعادة كفرشيما كمساحة منتجة، صحية، وإنسانية.

تاريخ

باحث في تاريخ كفرشيما

12/26/20251 min read

عند استقلال لبنان، كانت كفرشيما أكثر من بلدة على أطراف بيروت. كانت مشهداً حيّاً للطبيعة اللبنانية في أجمل صورها: غابات صنوبر كثيفة، زيتون معمّر، نهر يجري بهدوء، وناس يجتمعون تحت الأشجار في مواسم الفرح والعمل. في تلك المرحلة، لم تكن كفرشيما ضاحية، بل نقطة توازن بين الريف والمدينة، بين الإنتاج الزراعي والحضور التجاري، وبين الطبيعة والإنسان.

كان لأبناء كفرشيما حضورٌ واضح في بيروت. التجارة، الحِرَف، والعمل اليومي ربط البلدة بالعاصمة من دون أن يفصلها عنها. الأرض كانت تُنتج، والناس كانوا يعرفون قيمة ما يزرعون، وما يبنون، وما يورّثون. لكن هذا التوازن لم يصمد طويلًا.

مع توسّع بيروت بعد الاستقلال، بدأت كفرشيما تتحوّل تدريجيًا إلى مساحة مستباحة. بدل أن تُدمج في مشروع تنموي ذكي يحافظ على هويتها، جرى التعامل معها كأرض فائضة عن الحاجة: أرض للبناء السريع، وللصناعات الصغيرة العشوائية، وللسكن الكثيف بلا تخطيط. الزراعة تراجعت لأن الدولة لم تحمِها، ولم تدعمها، ولم ترَ فيها قيمة اقتصادية حقيقية. الزيتون والصنوبر قُلعا بصمت، وحلّ مكانهما الإسمنت.

ومع تراجع الزراعة، لم يُبْنَ بديل اقتصادي فعلي. ما سُمّي «منطقة صناعية» لم يكن صناعة بالمعنى الحقيقي، بل تجمعًا لمعامل صغيرة ضعيفة الإنتاج، عالية التلوّث، بلا رقابة، وبلا رؤية. لم تخلق فرص عمل مستدامة، ولم تُنتج قيمة مضافة، لكنها نجحت في تلويث الهواء والمياه والتربة. النهر الذي كان رمز الحياة تحوّل إلى مجرى مهمل، والهواء النقي صار ثقيلاً على صدور السكان.

في الوقت نفسه، تمدّد السكن الشعبي بوتيرة سريعة. مبانٍ ارتفعت بلا بنى تحتية حقيقية، بلا صرف صحي منظم، بلا شبكات مياه كافية، وبلا كهرباء مستقرة. تحوّلت كفرشيما إلى بلدة تعيش على الهامش: ليست مدينة منتجة، ولا ريفًا حيًّا، بل مساحة مكتظة تعاني من الإهمال المزمن. الدولة غابت، والبلدية حوصرت، والناس تُركوا ليؤمّنوا أبسط حقوقهم بأنفسهم.

هكذا خسرت كفرشيما حضورها التجاري في بيروت. ليس لأن أهلها فشلوا، بل لأن السياسات فشلت. عندما تُقتل الزراعة، وتُشوَّه الصناعة، ويُترك السكن بلا تخطيط، يصبح الانهيار مسألة وقت. البلدة التي كانت جوهرة تحوّلت إلى عبء في نظر الدولة، بدل أن تكون فرصة.

قصة كفرشيما ليست استثناءً، بل نموذجًا مصغّرًا لما جرى في لبنان: بلد أكل مستقبله عبر سوء الإدارة، وغياب الرؤية، وتفضيل الربح السريع على التنمية الطويلة الأمد. لكن ما زال في كفرشيما شيء لم يُدمَّر بعد: الذاكرة. والذاكرة، إن استُخدمت بوعي، يمكن أن تكون بداية استعادة ما فُقد — لا كما كان تمامًا، بل كما يجب أن يكون.

تنويه:

هذا المقال هو عمل تحليلي–صحفي يهدف إلى توثيق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي شهدتها بلدة كفرشيما عبر الزمن، بالاستناد إلى الذاكرة الجماعية، والمعطيات العامة، والملاحظة الميدانية. لا يهدف النص إلى الإساءة إلى أي جهة رسمية أو خاصة، ولا إلى توجيه اتهامات مباشرة لأفراد أو مؤسسات بعينها، بل إلى فتح نقاش عام حول أسباب التدهور وسبل المعالجة. جميع الآراء الواردة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وتُطرح في إطار حرية التعبير والسعي إلى المصلحة العامة.