حين صادرت بيروت الصوت: كفرشيما التي أسّست الصحافة في القاهرة ومُنعت من امتلاك جريدة في وطنها

يكشف هذا المقال جانبًا من التاريخ المنسي لكفرشيما، البلدة التي ساهم أبناؤها في تأسيس صحافة عربية رائدة في القاهرة، وفي مقدّمها صحيفة الأهرام، بينما مُنعت في المقابل من امتلاك صحيفة خاصة بها في بيروت. يسلّط النص الضوء على ذهنية المركز الإعلامي في العاصمة، التي احتكرت الكلمة وضيّقت على الأصوات القادمة من الأطراف، ويطرح أسئلة عميقة حول الإقصاء الثقافي، واحتكار الإعلام، وأثر ذلك على تراجع الصحافة اللبنانية وفقدانها لدورها الوطني الحقيقي.

تاريخ

تاريخ كفرشيما

12/26/20251 min read

ليست كفرشيما بلدة هامشية في تاريخ الفكر والإعلام العربي، كما يحاول البعض تصويرها اليوم. على العكس، كانت هذه البلدة الصغيرة منبعًا لعقول لامعة خرجت من ضيق الجغرافيا إلى رحابة العالم العربي، وأسهمت في تأسيس صحافة رائدة خارج حدود لبنان، وتحديدًا في القاهرة، عاصمة الفكر والنشر في مطلع القرن العشرين. المفارقة المؤلمة أن البلدة التي شاركت في صناعة الكلمة الحرة في مصر، حُرمت من حق امتلاك صحيفة على أرضها وفي محيطها الطبيعي: بيروت.

في زمن كانت فيه الصحافة مشروعًا فكريًا وثقافيًا لا تجاريًا فقط، هاجر أبناء كفرشيما بعقولهم لا بأجسادهم فقط. بعضهم شارك في تأسيس أو إدارة صحف كبرى في مصر، ومنها صحيفة الأهرام التي أصبحت لاحقًا واحدة من أعرق الصحف العربية. لم يكن هذا صدفة. كفرشيما كانت بيئة تعليم، لغة، ووعي مبكر. أبناؤها لم يكونوا تابعين، بل صُنّاع رأي ومبادرين.

لكن حين عاد الحلم إلى الوطن، اصطدم بجدار بيروت. العاصمة التي احتكرت القرار السياسي والإعلامي، لم تتعامل مع كفرشيما كشريك ثقافي، بل كمنافس غير مرغوب فيه. لم يكن المنع رسميًا دائمًا بنص قانوني واضح، بل جاء عبر شبكة من التعقيدات: تراخيص لا تُمنح، موافقات تُؤجَّل، ضغوط سياسية، واحتكار إعلامي خنق أي محاولة لولادة صحيفة مستقلة خارج الدائرة المسموح بها.

بيروت أرادت الصحافة أن تبقى في مركزها، تحت سقفها، ووفق توازناتها. أما أن تمتلك بلدة مثل كفرشيما منبرًا إعلاميًا حرًا، فهذا كان يُعد تهديدًا لمنظومة الصوت الواحد. فالكلمة، حين تخرج من الأطراف، تكون أخطر. لأنها لا تنتمي، ولا تُساوِم بسهولة، ولا تخضع لزبائنية المدينة.

هذا المنع لم يكن فقط حرمانًا من مطبعة أو جريدة، بل كان اغتيالًا لدور تاريخي. كفرشيما التي صدّرت الصحافة إلى القاهرة، حُكم عليها بالصمت في وطنها. وكأن الرسالة كانت واضحة: مسموح لكم أن تلمعوا بعيدًا، لكن ليس هنا. ليس في بيروت. ليس داخل النظام.

والنتيجة؟ خسرت كفرشيما فرصة ترسيخ حضورها الثقافي والإعلامي في لبنان. وخسرت بيروت بدورها تنوعًا فكريًا كان يمكن أن يغني الحياة الصحفية ويكسر احتكارها. بدل أن تكون الصحافة مساحة وطنية جامعة، تحولت إلى نادٍ مغلق تديره العاصمة لمصلحتها.

اليوم، حين ننظر إلى تراجع الصحافة اللبنانية وانهيارها الأخلاقي والمهني، لا يمكن فصل ذلك عن هذه الذهنية الإقصائية القديمة. حين تُمنع الأصوات الصادقة من الكلام، يعلو ضجيج التافهين. وحين تُقصى بلدات مثل كفرشيما، يُفرَّغ الإعلام من جذوره.

قصة كفرشيما مع الصحافة ليست مجرد صفحة من الماضي، بل دليل على أن المشكلة لم تكن يومًا في غياب العقول، بل في خوف المركز من صوت لا يستطيع التحكم به.

تنويه: هذا المقال يقدّم قراءة تاريخية وتحليلية لدور أبناء كفرشيما في الصحافة العربية، وللبيئة الإعلامية والسياسية التي حكمت منح التراخيص والعمل الصحفي في فترات معينة. لا يدّعي النص توثيقًا قانونيًا نهائيًا لكل الوقائع، ولا يوجّه اتهامات مباشرة لأشخاص أو مؤسسات محددة، بل يطرح سردًا تحليليًا مبنيًا على الذاكرة العامة والقراءة النقدية للسياق التاريخي. الآراء الواردة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وتهدف إلى فتح نقاش ثقافي وإعلامي مشروع ضمن إطار حرية التعبير.